الذكاء الاصطناعي- بين التحديات الأخلاقية وضمان الهوية

المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.22.2025
الذكاء الاصطناعي- بين التحديات الأخلاقية وضمان الهوية

قد لا نكون على دراية كاملة بتفاصيل ما لا نصنعه، وحتى معرفة التفاصيل لا تضمن لنا حسن التعامل معه، لأننا لم نكن جزءًا من إنتاجه. ليس كل ما يُنتج مفيدًا، وليست كل الصناعات بمنأى عن الأضرار. في جميع الشرائع، يُعتبر ضمان الفعل الضار أمرًا مسلمًا به، سواء بالنصوص أو الأعراف؛ فتارة يكون الضمان على المتسبب، وتارة على المباشر، وأحيانًا عليهما معًا. وقد لا يشمل الضمان الأضرار الأخلاقية إلا في القوانين والأنظمة الحديثة.

من بين أوجه تطبيق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" إزالة الضرر القائم ومحو أسبابه. وما تشريع الحدود إلا رادع عن الوقوع في المعاصي، تمامًا كالقصاص الذي فيه حياة. ويمكن القياس عليهما في كل ما يفسد أخلاق وسلوكيات البشر، فالفساد الأخلاقي هو موت للروح. تكمن خطورة الرقمنة في عدم مراعاتها لخصوصية مجتمع أو ديانته، أو ردود فعل أهله تجاه المنتجات والصناعات الرقمية التي تضخها الشركات على مدار الساعة والأسبوع والشهر والعام. هناك من يتفاءل بها ويتفاعل معها دون أدنى شك أو ارتياب في الأجندات الخفية وراءها.

لقد أثبتت التجارب السابقة أن ما تقدمه لنا شركات الآخرين ليس مجرد سلع للبيع والربح، بل هو ثقافة وأيديولوجية تتسلل بيننا وتنتشر في مجتمعاتنا، حتى تصبح مع مرور الوقت من المسلمات. إذا أردنا أن نتخيل كيف سيكون العالم بعد عشرين عامًا، علينا أن نعود إلى ما قبل عقدين من الزمن لنقارن بين بدائية الحياة إلكترونيًا وبين ما نعيشه اليوم، ثم نقيس على ذلك، مع الانتباه إلى التنافس الشديد على الصناعات والتقنيات المستقبلية، التي لن تحرّم أو تُجرّم إلا ما يضر بها.

إن ما يتم طرحه اليوم وغدًا عبر أحدث التطبيقات قد يكون مخيفًا أو مريبًا أو غير آمن. فالعالم الافتراضي عالم مفتوح على مصراعيه، وقد يؤثر سلبًا في الأجيال القادمة، عبر تطبيقات تلاعب بمشاعرهم. لا أستبعد تورط بعضهم في الإلحاد أو الانحلالات الأخلاقية أو التزوير أو الانتحال أو التحايل. ولن يغيب عن أذهان المتابعين الأثر البالغ الذي أحدثته الدراما الوافدة في الماضي على ثقافتنا الاجتماعية.

أجد أن انتحال الأصوات وتركيبها على فيديوهات لشخصيات معروفة، ليظهروا بصورهم المألوفة، ولكن بمحتوى لا ينسجم مع مواقفهم أو مواقعهم أو قناعاتهم أو مكانتهم السياسية والاجتماعية والدعوية، هو تجاوز خطير جدًا. تُذاع عبر هذه الفبركات فتاوى، وتُمرر معلومات مضللة، وتُبث شائعات، تشوّش القناعات وتزعزع الفكر. غالبًا ما لا يدقق إنسان هذا العصر، فيتلقى الرسائل ويشاهد المقاطع ويظنها حقائق مسلمة، مما يهز ثقته بمن كان يثق بهم.

نحن في وطننا نعتز بهويتنا الإسلامية المعتدلة، وقيمنا النبيلة، ووحدتنا الوطنية التي لا مثيل لها. من الخطورة بمكان أن نسلم ونقبل بكل معطيات الذكاء الاصطناعي، حتى لو عدّه البعض سيد هذا العصر، وأن منافعه تفوق مضاره. لا نعلم حجم الضرر الذي قد يلحق بشبابنا وفتياتنا، ويدفعهم إلى مخالفات ومخاطر تخدم مصالح وسياسات لا تراعي الأديان ولا المبادئ ولا التعاليم السماوية. لا نخفي حاجتنا الملحة إلى التحصين والتقنين الفردي والمؤسسي للحد من البرامج الضارة. بعض الدول الكبرى تجاهد لتفادي ما يرد إليها من مسوقين يطمحون إلى إذابة الهويات في هوية واحدة، وهذا اعتداء سافر على حريات الشعوب والأمم وحقها في اختيار ما يناسبها ويصلح لها.

إذا سلمنا بأن العالم أصبح قرية صغيرة أو غرفة كونية، فإن عقائدنا وأخلاقنا وآدابنا تختلف حتمًا عما يؤمن به كل من يدخل قريتنا أو غرفتنا بما يحمله من (أجهزة وشاشات وروبوتات) تسهم في اختراق القلوب قبل الجيوب. وبينما نراقب عن كثب ما تحبل به مراكز الأبحاث والدراسات والصناعات، نتطلع إلى أن يستحضر المشرعون الضمان في الفعل الضار، حتى لو لم نكن نعرف من سنقاضي (الآلة أم مخترعها أم الدولة التي صدرتها أم التاجر الذي استوردها؟).

بالتأكيد، الذكاء الاصطناعي ليس مجرد معلومة أو منتج رقمي، بل هو ثقافة وسلوك وبرمجة ذهنية له تأثير عميق في كل تفاصيل حياتنا. "نوبل" الذي اخترع الديناميت لم يقصد إشعال الحروب، بل كان يرى نفسه داعيًا للسلام. لكن بحكم عمله في صناعة المتفجرات، اشتبهت الصحافة في نهاية حياته في اسم متوفى وظنته "نوبل" ولم يكن هو بل شقيقه، فسارعت بالنشر وكتبت: "وفاة تاجر الموت الذي جمع ثروة طائلة باكتشافه طريقة أسرع لقتل أكبر عدد من الناس". عندما قرأ نعيه وهو على قيد الحياة، انتابه القلق على سمعته وخاف من لعنة الأجيال لسيرته. تعبيرًا عن ندمه، قرر تخصيص 94% من ثروته (31 مليون كرونة سويدية) لاستثمارها ومنح جوائز من عوائدها للإنجازات التي تخدم الإنسانية في مجالات الطب والفيزياء والكيمياء والآداب والسلام.

يمكننا أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي بأسلوب استباقي، بأن نجعله تحت سيطرتنا، بهدف التطوير والابتكار والاعتماد على الذات، وتعزيز عوامل الإنتاج، والاكتفاء الذاتي، وتوطين النسخ المحلية منه، ليصبح "منافع لا آثام" بدلًا من "إثمه أكبر من نفعه".

إشارة: لقد كان لتطبيق "فيسبوك" دور مؤثر في ما يُعرف بـ "الربيع العربي"، حيث زرع بذور الحقد على الأوطان في نفوس بريئة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة